لقد نجحت! إنهم يتحدثون الفصحى

 

4 مارس 2023

 

يُقرأ في 5 دقائق

alerby-tu-walsntu-atfal-na

  ©   pexels.com/@yankrukov

حين سألتني السيدة الهولندية المنقبة فيما إذا كانت اللغة العربية التي أعلمها للأطفال هي الفصحى حقاً، وجدت نفسي، أمام نظرتها المتوجسة الراجية، أهز رأسي بالإيجاب مطمْئِنةً بتكرار: نعم نعم، إنها الفصحى بالتأكيد!

ولم أكن حينها صادقة فيما أقول، فلقد كانت تلك هي أيامي الأولى في العمل مربيةً في روضة أطفال عربيّة في اسطنبول.

ووجدت نفسي بعد وداع الأم القلقة أمام عشرة أطفال في سن الثالثة، نصفهم عرب ونصفهم ليسوا عربا، ووجدت نفسي أقرر دون كثير من التفكير أن أخاطبهم طوال الوقت بالفصحى، فليس ثمة طريقة لأفي بوعدي لتلك لسيدة الهولندية سوى هذه الطريقة، ولكنَّ الأمر على لم يكن سهلا على الإطلاق!

اكتشفت أني لا أجيد لغتي الأم

وعلى الرغم من تمكني من العربية بشكل ممتاز، إلا أنني وجدت صعوبة ملحوظة في استخدامها في مخاطبة الصغار، صعوبة تنبع من كوني تعلمتها لغةً أكاديميةً وأدبيةً وشعريةً وليس لغةَ حياةٍ يومية.

وعلى الرغم من قدرتي على المجادلة بالفصحى حول شأن فكري ربما بدون تلكؤ، إلا أنني كنت أحتاج فعلا إلى أن أعطي نفسي الوقت قبل أن أطلب من الطفل أن يتوقف عن معاركة رفيقه، أو أن يترك أداة خطيرة من يده، أو أن يحُكم إمساك علبة العصير قبل أن يسقطها أرضا! وهو وقت لم أكن أملكه دوما، بسبب وجوب رد الفعل السريع مع أطفال يتحركون بسرعة الضوء من حولي، لذا كانت كلماتي تخرج أحيانا ركيكة ومبعثرة!

كما أنني كثيرا ما كنت لا أجد أسماءً فصيحة لأشياء بيتية نستخدمها بشكل يومي، فأضطر إلى مزج الفصيح بالعامي في جمل مضحكة!

ورغم صعوبة الأمر، وثقله على لساني، أنا التي كنت أعد نفسي ابنة العربية البارة، تمسكت بقراري، وكان أمامي يوميا خمس ساعات من الحديث المتواصل مع أطفال معظمهم لا يفقهون ما أقول لولا الإشارات والإيماءات، ليستجيبوا أحيانا وأحيانا لا، أو ليجيبني العرب منهم بلهجاتهم المحلية، وغير العرب بعيونهم المتسائلة وأكتافهم المرفوعة. وكدت في البداية أيأس من جعلهم يتخلون عن لهجاتهم، أو جعل الأجانب منهم يبدؤون بالنطق بالعربية، لكن يأسي تبدد حين بدأت أقطف ثمار جهودي!

قطف الثمار والسعادة غير المسبوقة

بعد شهر واحد فقط بدأت أسمع منهم، عرباً وغير عرب، ومن بينهم أطفالُ السيّدة الهولنديّة القلقة، ألفاظاً فصيحة أثناء اللعب، يستخدمونها بشكل عفوي تماما ودون تدخل مني بالتصحيح أو التكرار!

كما كان هناك أطفال أوروبيون مسلمون، جاؤوا برصيد صغير من لغة عربية فصيحة، فصار تطورُ اكتسابهم للعربيةِ سريعا جدا، وبزوا أقرانهم العرب، وبدؤوا خلال فترة قصيرة بالصرف والاشتقاق أيضا، وكانوا ما أجملهم حين تفقر ذخيرتهم الصغيرة بما يريدون قوله، فيخترعون له كلماتٍ جديدة، كتلك الطفلة الألمانية التي اختبأت بشقاوةٍ تحت الطاولة الملونة، كي تدفعني للبحث عنها، ثم صرخت بصوتها الطفولي الناعم: "أنا لا يوجد!" وهي تريد أن تقول: "أنا لست هنا!"

شعور غريب بسعادة فريدة ينتابك حين تسمع العربية تُتكلم من قبل أطفال صغار، يبدو الأمر كما لو أن لغتك العريقة المحتبسة في الكتب وفي برامج الحوارات السياسية المملة تعودُ للحياة من جديد، تعودُ إلى طفولتها الأولى. تنتابك القشعريرة حين تفكر أنها الآن متجذرة في عقول أطفال في الثالثة من العمر، يستخدمونها لتشكيل أفكارهم الصغيرة البسيطة، للتعبير عن حزنهم وشكواهم، لتوزيع أدوار اللعب بينهم، لاقتسامهم قطع الحلوى، لشجاراتهم اللئيمة المتكررة، ولنوبات الضحك التي لا أفهم علام تنتابهم، لكنني أجد نفسي بعد ثوان أشاركهم فيها باستغراق!

لماذا الفصحى؟

وقد يسأل سائل: ولم الفصحى؟ وقد يعمدُ هذا السائل حتى إلى إهمال العربية العامية في المنزل على حساب لغاتٍ أجنبية، كما يفعل بعضُ القاطنين الجدد في بلاد اللجوء الأوروبية، وهم يظنون بذلك أنه يُكسبون أطفالهم أهمَّ لغات العالم، ويسهِّلون عليهم طريق التحصيل العلمي حيث يعيشون. وكم أحزن لأجل هذه الخسارة الفادحة التي سيُمنى بها الطفل عندما سيكبر، حين سيجد علاقته مع لغته الأم علاقة ضعيفة، لا يستطيع أن يبني عليها حتى أساسا متينا لاكتساب أية لغة أخرى، فاللغات تبنى فوق بعضها البعض، ولغةٌ أمٌ قوية تعني اكتساباً أسهل لأية لغة أخرى.

فاللغاتُ الأجنبية، مهما كنا متمرِّسين بها، لا يمكن أن ننقلها لأطفالنا على أنها لغةٌ أم، لأننا سنظل دوما دخلاء عليها، وذخيرتنا منها لا تتعدى ما تعلمناه في فترات الإقامة المحدودة أو دروس اللغة مدفوعة الأجر، ولذا نحن نقدم للطفل في هذه الحالة لغةً أماً قاصرة عن أن تغطي جميع جوانبِ الحياة، وتجليات الشعور، وحالات الفكر، تلك التي يستطيع المتمكنون من لغتهم الأم التعبيرَ عنها بطلاقة ووضوح!

نحن نقدم لأطفالنا في هذه الحالة لغةً سقطت منها لدينا معظم مفرداتها، ناهيك عن انفصال هذه اللغة عن أي عمقٍ ثقافي أو حضاري يشعر معه المرء بارتباطه بهويةٍ محددة!

نحن بهذا نحرمه لغةً أماً يفهم بها العالم الخارجي المعقد ودواخلَ نفسه المتشعبة، ونحرمه هويةً يشعر فيها برسوخ قدميه بين الآخرين المختلفين عنه، ولا نقدِّم له إلا مسخا من هوية ولغة مشوّهَين!

الغربة عن الفصحى والعزوف عن القراءة:

وبالمثل تقصر العامية أيضا عن الأمرين، فباستثناء الأغاني الشعبية وحكايات الجدات لا يوجد أي إرثٍ ثقافيٍ وحضاريٍ مدونٍ بالعامية، وكل إرثنا الذي تتمثل فيه هويتنا مصوغ بالعربية الفصحى، تلك التي صار بينها وبين الأجيال الجديدة حجابٌ سميك، طالما أنها بالنسبة لهم لغة الكتب المدرسية التي يفسرها لهم المعلمون بالعامية شرحا وتفصيلا.

إن حقيقة فقداننا اللغة العربية الفصيحة بوصفها لغة أم لحساب اللهجات العامية، هي المسؤول الأول عن العزوف عن القراءة عند الشباب، فمن منا يستسهلُ القراءة بلغة لا يفكر فيها، ولا يتكلم بلسانها، ولا يفهم كثيرا من تراكيبها؟

وما بالكم لو كانت القراءة للغةٍ جزلةٍ وبديعةٍ كآيات القرآن الكريم، تلك التي تبدو كلماتها لمعظم جيلنا الآن كالطلاسم؟ مما يخلق بين المرءِ ورسالة ربه الموجهة إليه أثخنَ الحجب وأعلى الحواجز، ويسهِّل الطريق أمام كل المتنطعين للتصدر للتفسير كما يريدون.

أعرف أننا لن نكون قادرين على تقديم ثروةِ اللغة العربية الفصيحة كلها لأطفالنا، لعدم امتلاكنا لها كأشخاص عاديين، الأمرُ الذي لم أستطع طبعا منحه لأطفالي العشرة، لكن أقلَّ ما يمكن أن نفعله هو كسرُ هذا الحاجز، وتمزيق هذا الحجاب السميك بين الأطفال وبين لغة دينهم وحضارتهم، هو تسليمهم مفاتيح هذا الكنز الغائب المغيَّب عنهم، ليستطيعوا فيما بعد توسيعَ آفاق تعلمهم بأنفسهم، وتكثير َكنوزهم اللغوية بجهودهم، وتذوق الفصحى باستمتاع، وجدلَ مفرداتها مع تشعبات أفكارهم ومشاعرهم، دون أن تكون هذه المفرداتُ المخطوطة في سطور الكتب لغةً غريبة عليهم، أو بعيدة عن قدرتهم على الفهم والاستيعاب، بل أن تكون العربية الفصحى هي اللغةَ التي يفكرون فيها في لحظات شرودهم، ويتلعثمون في كلماتها خلال شهقات بكائهم، ويأكلون حروفها أثناء نوبات ضحكهم، وبها أيضا يخوضون حواراتهم الوهمية مع ألعابهم.