هل تعد قراءة الروايات مضيعة للوقت؟
4 مارس 2023
يُقرأ في 6 دقائق
© pexels.com/@fotios-photos
لا شك أن هناك ردة إلى القراءة بتنا نلحظها حين سمحت لنا مواقع التواصل الاجتماعي باستراق النظر إلى واقع الشباب الحالي، ولعل هذه المواقع وما تثيره من الحماسة والتأثير المتبادل بين روادها ساهمت إلى حد ما في هذه الردة الحميدة، رغم أن الكثيرين ينظرون إلى الأمر بعين الريبة أحيانا وبعين الاستصغار أحيانا أخرى بسبب اتجاه الشابات والشبان الحالي نحو قراءة الروايات على نحو خاص وإحجامهم عن قراءة الكتب الاختصاصية، فهل يستحق الأمر فعلا إلقاء اللوم على الشباب في اختياراتهم لكتبهم؟ وهل تعتبر قراءة الروايات كما يدعي اللائمون مضيعة للوقت ومفسدة للنفس وهل أنها لا تسمن في بناء الشخصية وتمكين الأساس المعرفي كما يقولون ولا تغني من جوع؟
"نعم" و"لا" لا تكفي للإجابة:
إن الإجابة على هذا الأسئلة لا تكون بنعم أو لا يتلوهما نقطة آخر السطر، فلا شك أن قراءة الروايات وحدها لا يمكن أن تكفي لإرساء قواعد فكرية متينة تساعد القارئ في التعامل مع تعقيدات الحياة و تطوير ملكة المحاكمة العقلية لمواجهة المعضلات الفكرية الطارئة التي تكون مؤثرة لدرجة هز أنظمة حكم أو زعزعة بنية مجتمع أو سفك دماء في سبيل قضية!
ولكن ذلك لا يعني أن نقلل من أهمية الروايات التي تهذب في النفس البشرية ما لا تهذبه أي كتب اختصاصية، وتصل في أعماق الوجود الإنساني إلى نقطة لا يمكن أن يصلها أي كاتب يخط في شأن علمي!
إن غنى القرآن بالقصص التي لا تخلو من الوصف والحوارات وتتطرق للتفاصيل وتحرك المشاعر ثم تزرع الرسائل الربانية التوجيهية في طيات أحداثها الشيقة يجب أن ينبئنا بأهمية القصص في حياة البشر، الأمر الذي بات يمثله الآن مصطلح الرواية الذي اضطلع بكل هذه المهام الموكلة للقصة في التأثير في وجدان الإنسان.
والروايات هي الأقرب إلى الناس من أي فن آخر من فنون الكتابة لأن معظم من اهتدى إلى عالم القراءة الساحر لم يهتد إليه إلا مأخوذا بقصة شيقة لم يستطع تركها قبل معرفة نهايتها، أو بحكاية ملهمة اختطفته من واقعه إلى عالم متخيَّل نابض بالمجهول الجميل، ومعظم الشباب الذي يتداولون اليوم الروايات هم حديثو عهد بالقراءة لذا لا يجب لومهم على افتتانهم بعالم الروايات الجديد، بل يجب تفهم انبهارهم به على هذه الأعتاب الساحرة ودفعهم للاستمرار إلى النقطة التي ستوصلهم حتما إلى قراءة أكثر توجُّها.
فوائد لا تحصى:
والروايات ليست مجرد قصص تحكى للتسلية، بل هي خلاصة تجربة الكاتب الإنسانية التي تكون مغرقة بالمحلية غالبا، تحمل بين أسطرها بصمة مكانه وزمانه بكل تفاصيلهما من عادات وظروف وثقافات قد تكون غاية في الجِدَّة على قارئها، لذا فهو لا يخرج من القراءة بقصة مسلية فقط بل يخرج بانطباع واف عن تفاصيل الظرف الذي عاش فيه البطل بحيث تصبح قرية من قرى قرغيزستان كما في رواية "جميلة" أو زقاقا من أزقة هلسنكي كما في رواية "أغنية سولفيج" أو حيا من أحياء الرياض كما في رواية "القندس" أماكن مألوفة بعاداتها وظرفها الزماني ووجوه سكانها وأفكارها الشائعة. لا يخلق هذا غنى في الثقافة وسعة في الأفق فحسب بل يخلق تسامحا كبيرا لدى القارئ مع المختلف عنه، وخروجا من الدائرة الضيقة التي يعيش فيها ظانا أن الدنيا كلها تدور حولها.
والروايات الآن تتجه لأن تكون معلوماتية قدر الإمكان كروايات دان براون ويوسف زيدان وغيوم ميسي، فالكاتب لم يعد يكتفي بملكته الأدبية وتجربته الحياتية في خط روايته، بل صار يستعين بالمراجع التاريخية والعلمية والهندسية وغيرها حسب موضوع روايته لتأتي الرواية كجرعة معلومات دسمة تزج بالقارئ إلى ميادين جديدة تثري فهمه أو تثير فضوله فتدفعه للبحث أكثر خلف خيوطها التي سلمته أطرافَها الرواية.
والروايات في طيات قصتها تحمل غالبا فلسفة الكاتب ونظرته إلى أسئلة الحياة الكبرى، كالله والدين والموت والوطن والحب والألم والسياسة والقيم الأخلاقية. روايات كـ "شرق المتوسط" و"حليب أسود" و"الخيميائي" تفتح كل منها نافذة جديدة للقارئ بإطلالة مختلفة على الحياة عن إطلالته هو، مما يجعله يعيد النظر إلى قناعاته أو يهذبها أو يكتشف من خلال البحث والمقارنة أصالتها.
وعالم الرواية أشبه بمتحف غير محدود للشخصيات الإنسانية، فالرواية الناجحة لا تقدم صورا نمطية، بل يكتشف القارئ من خلالها أن كل الصور النمطية تتساقط إذا ما كنا على القرب الكافي من الإنسان، فيكون مع كل كتاب على موعد مع شخصيات جديدة كليا قد لا يتاح له مقابلتها في العالم الحقيقي كبائعة الهوى في "امرأة من روما" وضحية التحرش في "لا تخبري ماما" والغني المتشكك في "الأسود يليق بك"، ولو قابل القارئ أشباهها سلفا فلن يكون قادرا على فهمها بهذا العمق الذي يقدمها الكاتب به، وبهذا تكون الرواية مهربا من محدودية تجربتنا الإنسانية مع الناس من حولنا إلى عالم نقابل فيه المئات من المختلفين عنا المخالفين لتوقعاتنا وانطباعاتنا الأولى، مما يبعدنا عن مطبات تنميط الناس في المستقبل ويهيئنا للقاء أشباه أبطال الروايات بمقدار أقل من الدهشة وبقدر أكبر من الفهم والتقبل.
كانت هذه الفضيلة وحدها لتكفي:
وليست الشخصيات وحدها من سنطور من خلال الروايات فهمنا لها، بل حتى السلوك الإنساني نفسه، بدءا بفهمنا لأنفسنا وانتهاء بفهمنا للآخرين. إن المساحة الكبيرة التي تقدمها روايات كـ "ساق البامبو" و"الجريمة والعقاب" في الغوص في عمق نفسية الشخصيات أثناء الأحداث وردود الأفعال والحوارات تجعل نظرتنا لأي حدث مألوف مع أي شخص قريبا كان أو بعيدا أكثر نضجا وفهما. لم يعد غضب زميل العمل إثر مزاح عادي مجرد غضب غير مبرر، بل صرنا ندرك أن للأمر أبعادا أخرى في الطبقة الأعمق من ردة الفعل. لم تعد الرجفة الخفية في شفة الأخت الصغرى إثر ذكر موضوع معين مجرد ارتعاشة لا دلالة لها، بل صرنا نفهم أن خلف هذا الهدوء المكابر عاصفة من المشاعر.
إن قراءة روايات جيدة يكتبها كتاب جيدون تمكننا من فهم الناس من حولنا وتحسن من طريقة تفاعلنا معهم وتزيد من تسامحنا مع أخطائهم ومن قدرتنا على التأثير فيهم.
لن ينجح أي كتاب تخصصي غالبا في منح القارئ المهارات الإنسانية التي تمنحها مطالعة الروايات الجيدة، لن يستطيع أن يهذب مشاعر الإنسان ويحرره من سجن دورانه حول ذاته ويمنحه القدرة على الشعور بالآخرين، لن ينجح في جعل قلب المرء رهيفا إلى الحد الذي يستطيع فيه إنكار ذاته وتقمص الآخر في مواقف قد تبدو للغالبية مفهومة وتبدو له عند الغوص في طبقاتها العميقة محتاجة إلى كثير من العناية والمداراة، فإذا كان للروايات هذه الفضيلة فقط لكفتها!
قلبَك نعم لكن لا تسلم عقلك لكاتب الرواية:
ولأن الروايات تأتي غالبا في أجمل الحلل الأدبية وأبهاها محملةً بمقدار كبير من العواطف مهيجةً للنفس والقلب، فإن لكاتبها سلطانا كبيرا على عقل القارئ يستطيع من خلاله تخديره بروعة الوصف وسحر البيان ليمرر إلى عقله الغافي ما يشاء من أفكار، لذا يجب أن يكون القارئ رغم دخوله في العالم السحري للرواية على قدر كبير من يقظة العقل تحسبا لأي دعوة غير محقة أو فكرة منحرفة عن الميزان السليم يسعى الكاتب إلى بثها. إن انبهاري بشخصية "زوربا" مثلا لا يمكن أن يكون مبررا لاعتناقي لقناعاته الهوجاء، وإعجابي بتضحية "جيليات" في "رجل نبيل" لا يجعلني أوافق على انتحاره في نهاية الرواية.
سلم قلبك للكاتب نعم، فمتعة القراءة وهذا الاستسلام اللذيذ لحرارة الأحداث ودفء المشاعر هو نعيم الروايات الحقيقي، ولكن إياك أن تسلم له عقلك، فمشارب الكتاب ومذاهبهم مختلفة، ولو كنت مستعدا لتصديق كل ما يُكتب لجعلت عقلك في فوضى فكرية لا يمكن لملمتها وترتيبها، لذا لا تكتفِ بما يقدمه لك الكاتب وسلح ذهنك بالنقد والمحاكمة والبحث في المصادر المختلفة.
وماذا بعد الروايات؟
أما المخاوف المتعلقة باكتفاء القراء الجدد بالروايات فقط فأعتقد بأنها مبالغ بها بعض الشيء، فكلما زاد رصيد المرء في قراءة الروايات كلما ارتقى ذوقه وأصبح إرضاؤه صعبا، ومن ترضيه في البداية روايات تجارية تباع في محطات القطار لتزجية الوقت ستعجز عن إرضاءه لاحقا تسع روايات من كل عشر يقرؤها، لذا فإن هذا الشغف بالرواية سيكون عاجزا فيما بعد عن سد الجوع المعرفي الذي خلقت القراءة الوعي به أساسا، وسيجد القارئ نفسه في أحضان كتب تخصصية ترضي شغفه العلمي الذي اكتشفه من خلال نضجه المعرفي ربما أو ربما أثناء قراءته لسطور رواية ما!