الكاتب وأناه في النص؛ العلاقة المعقدة

 

4 مارس 2023

 

يُقرأ في 6 دقائق

alkatb-wanah-fy-alns-alelaqt-almeqdt

  ©   pexels.com/@judit-peter-281675

كلنا نحب الحديث عن أنفسنا، فهذا أمر منسجم مع حاجتنا الفطرية للتعبير عن ذواتنا. وأجمل ما في اللغة العربية أن المرء يستطيع فيها التحدث عن نفسه دون أن يضطر لاستعمال كلمة "أنا" الثقيلة المخجلة، فهناك تصريف الفعل المضارع، وتاء الفاعل في الماضي، وياء المتكلم في الأسماء، وكلها طرق بديلة تسمح للمرء بأن يتحدث عن نفسه دون أن يستفتح قوله بتلك "الأنا" الكبيرة اللزجة، التي يمتلئ بها الفم، أو يتلوث بها القلم، ليصبح الكلام من بعدها ثقيلا جدا على السامع والقارئ والمتكلم والكاتب.

وقد يكون الاختباء وراء أقنعة النصوص الأدبية متنفسا جيدا للكاتب الخجول لكي يروي حاجته لاستعرض أناه بدون كثيرٍ من الفجاجة، يتوكأ قلمه خلال ذلك على ضمائر المتكلم المتصلة، متجنباً قدر الإمكان استخدام الضمير المنفصل "أنا"، أما عند الطرح الفكري البحت لأي مسألة فإن أي إطلالة صغيرة للأنا صراحةً أو مواربةً، ضميراً منفصلاً أو متصلاً، تفسد النص بشكل غير قابل للإصلاح.

الكاتب في النص بين الظهور والغياب

فبمجرد أن يضع الكاتب نفسه في النص، فإنه يغامر بقبول فكرته لدى القارئ، فحتى تُقبل هذه الفكرة يجب أن يكون هو بذاته محبوبا ومقبولا ومصدّقا لدى الناس، وإلا فإنهم يرفضون فكرته لمجرد أنهم رأوه فيها.

لذلك على الكاتب عندما يتناول الأفكار، أن يتوقف تماما عن الدوران حول نفسه، ليبدأ الدوران حول الفكرة فقط، متجنبا ضمائر المتكلم المنفصلة والمتصلة، ومستعينا قدر الإمكان بالفعل المبني للمجهول أو بالمجهول ذاته "المرء والإنسان وما شابهها من كلمات" في صياغة فكرته.

وأمتنُ النصوص وأكثرها إخلاصا للفكرة هو النص الذي يتوارى فيه الكاتب تماما عن أنظار القارئ، وهو النص الذي  تَنسى تماما شخص كاتبه حالما تبدأ بقراءته، فلا يظهر فيه الكاتب أبدا، أو لا يظهر منه إلا مقدار ما يخدم الفكرة فقط.

ففي الأفكار العامة الموجهة لكل الناس يجب ألا يشف النص عن ذكورة الكاتب أو أنوثته أو عمره أو مشاعره الخاصة أو انتماءه لبلد أو حزب أو دين معين.

أما في النصوص التي ينطلق فيها الكاتب من أفكار مسبقة ثابتة، متصلة اتصالا وثيقا بهويته كالجنس أو الدين أو القومية، لمعالجة فكرة أخرى مبنية على هذه الأفكار المسبقة، فيجب ألا يظهر منه للقارئ إلا بمقدار ما يكفي لمعالجة هذه الفكرة فقط لا أكثر.

فحين يكتب كاتبٌ مسلم نصا دعويا مثلا، فإنه يجب أن لا يظهر منه إلا كونه مسلما مؤمنا، وأي ظهور لمدى إيمانه، أو لانتمائه لتيار ما دون غيره، هو أمر يفسد النص تماما لأنه يحوله إلى رأي شخصي أو نصيحة متعالية. وأن تكتب المرأة عن المرأة يستلزم أن يشعر القارئ أن من تتكلم هي امرأة، بدون أي تفاصيل أخرى، وبدون ظهور أي أثر لتجربة شخصية. وأن يتحدث فيلسوف عن فكرة فلسفية ما، فعليه أن لا يظهر في نصه إلا على أنه كاتب مختص، أما حذاقته، وسعة اطلاعه، فهي أمور لا يجب أن يشير إليها بأية إشارة صغيرة.

وأي ظهور زائد للكاتب في النص يحول الفكرة إلى خادمة لذات الكاتب عوضا عن أن يكون هو خادما لها من خلال نصه.

وعدم الوعي بأهمية ذلك يجعل الكاتب يستسهل الظهور في نصه بين الفينة والفينة، على هيئة مديح مبطن للذات، أو تسويق لها، أو فرضها في النص كمرجعية لتقييم الأفكار، أو دفاع مستمر عنها في مواجهة نقد متوقع. يعمد بعض الكُتّاب إلى فعل ذلك بكل فجاجة، في حين يحاول البعض الآخر نسج ذاتهم في النص بخيوط ناعمة يظنونها غير مرئية، لكنها تترك أثرا فاضحا على حضور ذواتهم، لا يغفل القارئ الذكي عن ملاحظته، الأمر الذي يفقد النص الفكري الكثير من صفائه.

 

"أنا" الكاتب في خدمة الفكرة

ومثلما يكون إخفاء ذات الكاتب أمرا ضروريا لبقاء النص خادما للفكرة، فإن ظهور ذات الكاتب بوضوح كامل في النص أحيانا يجعل الكاتب ونصه يتكاتفان معا لخدمة الفكرة، إذا تطلبت الفكرة ذلك.

وهذا ما يحصل إذا أراد الكاتب أن يتحدث عن قضية ما، لا يمكن أن يكون فيها مصَدّقا لدى القارئ ما لم يكن هو تجسيدا حقيقيا لهذه القضية. إن نصا يواسي الأهالي الذين فقدوا أطفالهم سيكون أكثر إقناعا بكثير لو كتبه من عاش التجربة، فنقلها من خلال نصه، لا ترويجاً لنفسه، أو تجارةً بمشاعره، بل إخلاصا حقيقيا لفكرة الفقد والمواساة والأبوة المفجوعة. كذلك الأمر حين يتحدث ضحايا الحروب عن أنفسهم، أو النساء عن قضاياهن الحساسة، أو البدناء عن بدانتهم  إلخ... لا استعراضاً لبراعة المرء أو حسن خلقه أو ذكائه أو تنفيسا عن مشاعره، بل نقلاً لمثال حيٍّ عن الفكرة، قد يضطر معه الكاتب إلى ذم نفسه وفضح ضعفه وكشف عيوبه أو حتى اختلاق ذلك اختلاقا، فقط إخلاصا للفكرة وسعيا لتجسديها على أفضل وجه، وطمعا في قبولها لدى القراء المستهدفين. أما أي استعراضٍ يجلب للكاتب المديح والتصفيق يُسقط النص، ويسيء للفكرة عوضا عن أن يخدمها.

وقد يستخدم الكاتب من أجل التدليل على فكرته التي يجسدها بذاته ضمير "نحن" المتكلم، لا تعظيما للذات، وتفخيما لها كما يفعل بعض الكتاب حين يقررون الحقائق في كتاباتهم باستخدام الضمير "نحن" وكأنها فرمانات ملكية، بل سعيا مخلصا لصهر ذات الكاتب مع ذات قارئه، وتخفيفا من حدة ظهور "الأنا"، وتأكيدا على أن الكاتب لا يمثل ذاته بقدر ما يمثل شريحة يتحدث باسمها، وهو هنا يقبل المخاطرة باتهامه بالتعميم في سبيل الابتعاد عن اتهام البعض له على أن ما كتبه هو محض تجربة شخصية، لو كتبه باستخدام الضمير "أنا"، مما قد ينسف حينها الفكرة بأكملها.

وإن شخصنة الردود في هذه الحالات، والناجمة إما عن رفض كلي للفكرة بمهاجمة صاحبها، أو عن جهل القارئ بهذه المدرسة في الكتابة أصلا، يجب ألا تستفز الكاتب للرد عليها، ففي الرد عليها خيانة للفكرة بتحويل مسار معالجتها إلى دورانٍ حول الكاتب لا حول ما كتب.

 

أنا" الكاتب قربان لا بد من تقديمه:

ومن الطبيعي أن تجلب الأفكار الجديدة وغير المألوفة على الكاتب الكثير من سخط القراء، وفي سبيل الفكرة يجب على الكاتب أن يتحمل هذا السخط بنفس راضية، وأن يتجاوز عن أية إساءة بصدر رحب، فنحن الكُتّابُ نقتحم بيوت الناس أحيانا ونلقي في وجوههم على حين غرة أفكارا تخالف قناعاتهم الراسخة، وتقض مضاجعهم، وتصيبهم بالذعر، لذا لا أقلَّ من أن نتفهم غضبهم وتخوفهم، مهما قسوا علينا بكلامهم. لأن رد الإساءة بالإساءة، أو إهانة الناس، سيجعلنا نخسر ما نبذل من أجله كل ما نبذل، ألا وهو فرصة عرض أفكارنا على من لا يؤمنون بها، عساها تلقى يوما أذنا لديهم.

أما أَعراضنا وكراماتنا الشخصية وحقنا في الرد فهي أمور يجب أن نتصدق بها على الناس إخلاصا للفكرة والتماسا للأجر وتحملا للمشقة في سبيل ما نؤمن به، وهي ضريبة لا بد من دفعها، إلى أن يصل الكاتب إلى المرحلة التي لا تترك فيها تعليقات لاذعة كهذه في نفسه أكثر مما يدعو لابتسامة.

 

ما زلنا هنا على أية حال:

إنّ الصرامة في تحري الموضوعية والحرصَ على الانسحاب من النص لا يعني أننا لسنا موجودين فيما نكتب، فهذا أمر يصعب تجنبه تماما، وهناك دوما في لب أي نص جزء منا، حتى في هذا النص نفسه! وفي قلب كل مقال موضوعي هناك شعور صرف لا يخضع للمنطق، ووراء كل تدوينة عقلانية هناك صرخة ألم أو نداء استغاثة أحكمنا كتمهما، فالكاتب الذي يستشعر المسؤولية عن هذا القلم الذي يجري بين يديه، يعرف تماما كيف يجرد المقال عن أي ميل ذاتي، ليتحرى أكثر درجات الموضوعية حتى لو خالفت هواه، أو يحول صرخته الشخصية إلى همسة ناعمة تؤثر من أجل الجميع لا من أجله، أو يؤجل الحديث عن همومه الخاصة من أجل تناول قضايا أخرى يراها بعين عقله أكثر إلحاحا وأهمية. وإنّ تمكن الكاتب من أدواته، وإخلاصه في طرح فكرته، يجعل البحث عن هذا الجزء الذاتي في النص من قِبل القارئ مضيعة للوقت، لأنه لن يكون ممكنا أبدا جسُّ هذا النبض الضعيف من فوق كل هذا اللحم اللغوي والفكري السميك، والذي يجعل النص وجبة شديدة الدسامة، يهضمها عقل القارئ على مهل، ثم لا يهم بعد ذلك إن تذكر اسم طاهيها أو لم يتذكره.