متى يكون الحب كفراً حلواً؟
14 نوفمبر 2022
يُقرأ في 8 دقائق
© pexels.com/@dtanpt
أريد أن أستأذن من الكاتبة التركية إليف شافاك باستعارة مصطلح "الكفر الحلو" الذي استخدمته في روايتها الشهيرة قواعد العشق الأربعون لوصف الطريقة التي يعبد فيها البسطاء الله، وإسباغ هذا المصطلح على أمر آخر مختلف ألا وهو الحب بين الرجل والمرأة. أعرف أن الأمر قد يبدو للبعض غريبا، فمن المفهوم أن يقال عن الحب أنه "حلو"، لكن كيف يكون "كفرا"؟ لقد تناولت الحب مسبقا في أكثر من مقال ولا أزال أعترف أنني أبقى عاجزة عن فهم كنه هذه المشاعر الغامضة، وكلَّ ما تأملتها من زاوية مختلفة بدا لي منها أمر جديد. مبدئيا وحفاظا على متانة الفكرة دعني أتفق معكما سيدتي القارئة سيدي القارئ أنني سأعني بالحب الذي سأتحدث عنه الحب الحقيقي نادر الحدوث في حياة البشر والذي يتميز عن غيره بخلوه من الأسباب كافة، لأنه مبهم ذاتي الوجود يحمل سببه في جوهره نفسه، ولا يمكن تفسيره لا بالمنفعة ولا بقرابة الدم ولا بالجمال ولا بأي سبب آخر، بل لعله يكون مرتبطا في كثير من الأحيان بالعذابات التي توصف على أنها أشد ابتلاءٍ يمكن أن يتعرض له الإنسان. أما الحب المتصل بالأسباب الذي قد يعيشه المرء في حياته مرارا، فهو زائل بزوال الأسباب وليس موضوعا لبحثنا الآن.
المحبوب كبديل للإله في عصر المادة:
لا يخفى علينا أننا عُلّمنا كأبناء هذا العصر أن نبحث عن الحب بحثاً محموماً كمن يبحث عن كنز ضائع، أن نترقبه حتى قبل وصولنا إلى عتبة المراهقة، أن نتحراه في علاقاتنا الزوجية بين الفينة والأخرى لنتأكد من وجوده، أن نتحسر عليه في غيابه ونمنح أنفسنا الحق في البحث عنه قبل فوات الأوان. تغلغلت فينا هذه الأفكار عبر سواقٍ من الأدب والفن والغناء والسينما والتلفاز، تلك الأعمال التي تمجد الحب وتقدسه وتجعله غاية الحياة ومنتهاها وهدفها الأكبر، فمن وجده فاز فوزا عظيما ومن فقده باء بخسران كبير. ولهذه الانتشار غير المسبوق لهذه العقيدة بين أبناء البشر في هذا العصر على تقديري أصل نفسي روحاني، وهذا لا يعني أن البشر في العصور السابقة لم تقدر أهمية الحب، بل هو أمر له مكانة خاصة في معظم الثقافات، لكنها لم تتغول يوما لتصل ما وصلت إليه اليوم بسبب التركيز الكبير عليها في الأعمال الأدبية والفنية والإعلامية العالمية لأسباب تسويقية، ولعلة أخرى جوهرية في رأيي تطرح الحب كبديل روحاني وحيد في عالم مجنون فقد إيمانه بالخالق وأعلن إلحاده واستغناءه عن التصديق بالأديان. ولكن الإنسان يخلق وتخلق معه أسئلته الوجودية الكبرى: من أنا؟ من أين أنا؟ لم خلقت؟ لماذا أعيش؟ كيف يجب علي أن أعيش؟ ما هو الخطأ؟ ما هو الصواب؟ ما يحددهما؟ إلى أين سأنتهي؟ هل من فردوس؟ هل من جحيم؟ أسئلة تلح علينا ليل نهار وتولد قلقا كبيرا نجد أنفسنا قذفنا إليه في اللحظة التي بدأ فيها الوعي يتمطى في دواخلنا. أسئلة صعبة ومقلقة وانشغلت بها أهم العقول في العالم، وإجاباتها تحتاج للكثير من الصبر والبذل والوقت والطاقة النفسية ومن ثم الاستسلام لتبعات الأجوبة من تكليف وحلال وحرام. ويظل هذا القلق العظيم مرافقا للإنسان حتى تحل عليه في لحظة مفاجئة صاعقة العشق القاصمة، فتشل عقله وتعطل تفكيره وتدخل وعيه طوعا في قمقم صغير اسمه المعشوق. فجأة يختفي هذا القلق وهذا البحث الحثيث عن مجهول غيبي لا نملك أن نراه أو نسمعه أو نعرف ماذا يريد منا أو نتأكد من واجباتنا نحوه أو نتطلع إلى إرضائه! فجأة ينتقل مركز قلقنا واهتمامنا وحيرتنا إلى معشوق موجود أمامنا، نراه ونسمعه ونحسه ونفهمه ونعلم ما يريد وما لا يريد وما يستحسن وما يستقبح وما عواقب غضبه وما عواقب رضاه، معشوق خلصنا بلمح البصر من كل المعضلات الوجودية الكبرى ليقدم لنا في هذه اللمحة الخاطفة الإجابة على كل الأسئلة التي أرقت مضاجعنا طويلا، فمن أنا؟ أنا العاشق لفلان وهذه هوية وجودي، ومن أين أتيت؟ لم يعد مهما، ولم خلقت؟ خلقت لأعشق فلان، ولماذا أعيش؟ أعيش لأعشقه، وكيف يجب علي أن أعيش؟ بالطريقة التي يراها هو، وما هو الخطأ؟ هو ما يراه خطأ، وما هو الصواب؟ هو ما يراه صوابا؟ وهل من فردوس؟ نعم فردوسي قربه، وهل من جحيم؟ نعم فجحيمي صده وفراقه؟ جحيم نحن نرضى به ونتقبله ولا نريد استبداله مهما أمعن المعشوق في تعذيبنا، فله المشيئة وحده ولا نملك الاعتراض عليها، بل ونرضى بها وقد نستزيد، وأما الفردوس فوصاله ورضاه الذي لو شاء لأنعم به علينا، لندخل في غيبوبة أكبر عن كل ما في هذا الوجود. وهذا الجحيم وهذا الفردوس هما مرئيان لنا، محسوسان نؤمن بهما إيمان اليقين، إيمانا يخلصنا من الحاجة للإيمان بجحيم وفردوس لا نراهما. وأما منزل المعشوق فيغدو بالنسبة لنا الكعبة التي نحج إليها، وكلامه هو النص المقدس الذي نعيده ونكرره ونحفظه عن ظهر قلب، وجماله وأفعاله وذكرياتنا معه هي الذكر الذي تلهج به ألسنتنا. إيمان متكامل الأركان تام الطقوس بإله جديد! وفي شرعة هذا الإيمان المتفردة لا يعود للصواب والخطأ ميزان ثابت، بل هو ميزان متعلق بالمحبوب نفسه، فقد تستحيل الأعمال النبيلة شرورا عظيمة لو أضرت بالحبيب أو أثارت غضبه، بينما قد تتحول الكبائر إلى ملاحم بطولية وأفعال حميدة إذا ارتكبت في سبيل رضا الحبيب حتى وإن وصلت إلى القتل والسرقة والزنا والظلم وشهادة الزور، فذنوب العشق مغفورة كما يقال. وهكذا نرى أننا نستبدل شرائعنا السماوية شيئا فشيئا بشرعة الحب التي يصوغها المحبوب، ونستبدل الإله شيئا فشيئا بمعشوقنا الأوحد لأن وجوده الطاغي يهيمن على كل تجليات وجودنا نحن، قلبا وعقلا وفكرا وشعورا. يصبح معشوقنا إلهنا الذي أنقذنا من التخبط في هذه الحياة المبهمة حين قدم لنا اليقين الذي كنا نتعطش له وألغى ريبتنا في عبثية هذا الكون الواسع ثم أشبع لنا كل حاجاتنا الروحية بما نمارسه لأجله من طقوس الحج والذكر والعبادة وبما يمليه علينا من قواعد الخطأ والصواب. هو كفر حلو بكل مقومات الكفر، لأنه إذا ما استبد بنا واستسلمنا له أنسانا إيماننا الحقيقي بالفعل لو كنا مؤمنين، أو استغنينا عن البحث عنه لوكنا في طور البحث.
المحبوب كمعبود في الشعر والأدب والفن:
وعبادة المحبوب أو حبه حتى العبادة ليس أمرا جديدا على الثقافة العربية، فابن زريق قال في محبوبته: سلني حياتي أهبها ، فلست أملك ردك الدهر عبدي لما ، أصبحت في الحب عبدك وابن برد أنشد: عبد أني إليك بالأشواق، لتلاقٍ وكيف لي بالتلاقي أما أكثر قصائد الشعر العربي صراحة في التعبير عن هذه الفكرة فهي قصيدة خالقة للشاعر بدوي الجبل، حيث شبه الحبيب بالخالق الذي يصوره كيف يشاء في أبياته: مـن نُعمياتـك لــي ألــف منـوّعـة ، وكــلّ واحــدةٍ دنـيـا مــن الـنــور خلقتني من صبابات مدلهة ، ظمأى الحنين إلى دلّ و تغرير فكيف اغفلت قلبي من تجلّده ، لمّا تولّيت أبداعي و تصويري ؟ و كيف تشكين من حبّي غوايته ، و أنت كوّنت تفكيري و تعبيري و هل تريدين روحي هدأة و ونى ، فكيف أنشأت روحي من أعاصير ؟ ولا تخفى عنا قصص الحب الشهيرة في التاريخ العربي، تلك التي يعيش فيها العشاق ويموتون لأجله المعشوقة، حيث يكون العشق قضية حياتهم الكبرى، ولا يعرفون إلا به كعنتر عبلة ومجنون ليلى وجميل بثينة وغيرهم، وقصائدهم باقية شاهدة على المبلغ الذي بلغوه في العشق. والحالة في الأغاني العربية والأجنبية، القديمة منها والحديثة ابتداء بأغاني أم كثوم وعبد الحليم وانتهاء بأغاني الجيل الجديد واحدة، فكل كلماتها تدور في ذات الفلك فتقدس الحب وتؤله المحبوب، بل إن الأفلام والمسلسلات الرومنسية التي تنتهي غالبا نهايات سعيدة بتلاقي الحبيبين تعطي المشاهد انطباعا بأن العاشق قد وصل أخيرا إلى غاية حياته الكبرى ومنتهاها، ويحضرني هنا مشهد جاك وروز على اللوح الخشبي في فيلم التيتانيك، عندما أخبر جاك محبوبته أنه غير نادم أبدا على ركوب السفينة، لأنه تعرّف إليها ووقع في حبها. هو لن يندم حتى لو جاءه الموت كما يقول، لأنه توصل في آخر لحظات حياته إلى فهم غاية وجوده ألا وهو حبه لروز، لذا يصبح الموت هينا، ويهتف جاك: فزت والله!
كيف ننقذ أنفسنا من هذا الكفر الحلو؟
هو كفر إذا لأنه يشغل الإنسان عن إلهه الحق وعن غاية وجوده في هذا الكون، ويعطل بوصلة أفعاله التي من الواجب أن يبتغي منها رضا الله وحده لا رضا عبد من عباده. وقد يستشري هذا الكفر في البلاد غير المسلمة التي لم تجد إلا في الحب بديلا روحانيا يعطي للحياة غاية ويروي حاجة الإنسان للإله، يساعده على هذا الانتشار غسيل الأدمغة والفراغ الروحي وطغيان المادية. أما نحن المسلمون فقد يدخل قلوبنا هذا الكفر الحلو حين نعشق بشكل خفي، فنشرك مع الله إلها غيره دون أن نشعر، خاصة لو كانت صلتنا بالله غير متينة وفي قلوبنا وأرواحنا بعض الخواء، ومن ذلك يجب أن نحذر، ولكن ذلك لا يعني ازدراء الحب أو اجتنابه، بل هو من أجمل ما ينعم الله به على قلوب عباده، ولكنه يعني أن علينا أن نصل حبنا للمحبوب بحبنا لله لكي نجعل حبنا منزها عن هذا الكفر الحلو. علينا ألا نغفل أن حبنا لخالق الحبيب هو الأصل، فنناجي الخالق في حبنا هذا، نسأله هو الوصال ونعوذ منه هو من هجر المحبوب، ونتقيه في كل فعل نفعله مع هذا المحبوب، فما يرضاه الله في الحب نرضاه وما يبغضه نبغضه حتى لو خالف الحبيب، وهكذا تكون شرعة الله هي بوصلتنا وليس شرعة الحب العمياء، وتكون جنة الله هي الجنة الحق، وناره هي النار الحق، ولا مكان في قلوبنا إلا له وحده ولكل من هو متصل به، وهكذا نعيش الحب الحقيقي كما ينبغي له عن يكون بعد أن تمتلأ قلوبنا بالإيمان الحلو.